تصفح موسوعة قصة الحضارة

تصفح موسوعة قصة الحضارة
قصة الحضارة


الأحد، 15 يونيو 2014

حول بيلينسكي ورسالته الى غوغول


أ.د. ضياء نافع
المصدر : جريدة المدى 
"فيساريون غريغوريفتش بيلينسكي" ( 1810 – 1848 ) – ناقد أدبي روسي مشهور جدا وعلم من أعلام الفكر الروسي في القرن التاسع عشر , وقد تناول الباحثون العرب أفكاره ومواقفه ونشاطاته في مجال تاريخ الادب الروسي والنقد الأدبي في العديد من مقالاتهم وبحوثهم وأطاريحهم و اصداراتهم , ومنهم الباحثون العراقيون طبعا , اذ كتب الدكتور جميل نصيف التكريتي اطروحته في كلية الآداب بجامعة موسكو عنه في ستينات القرن العشرين , وكتب الأستاذ الدكتور جليل كمال الدين عنه ايضا ضمن أطروحته عن النقد الأدبي الروسي الثوري – الديمقراطي في نفس الجامعة.


وأصدرت المرحومة الأستاذة الدكتورة حياة شرارة كتابا عنه ضمن سلسلة أعلام الفكر العالمي في بيروت والذي أصدرت دار المدى للنشر طبعته الثانية في بغداد قبل فترة قصيرة , وقد انطلق الباحثون العرب جميعا في كتاباتهم من الموقف الفكري السوفيتي بشكل عام تجاه بيلينسكي , وهو موقف المؤيد المطلق بشكل كامل وتام لكل ما جاء في طروحاته حول الأدباء الروس والاتجاهات والمفاهيم الأدبية عموما في تاريخ الأدب الروسي ودور الأدب وأهميته في مسيرة المجتمع ... , وهذا ما حدث معنا ايضا – نحن الطلبة العرب في الدراسات الأولية آنذاك – في كلية الآداب بجامعة موسكو , اذ كانت كل الكتب والمصادر المنهجية حول الأدب الروسي تشيد به وبمواقفه التقدمية الرائدة وأفكاره الصحيحة والثاقبة في مجال تاريخ الأدب الروسي وحركة النقد الأدبي , وكنا نستمع الى محاضرات أساتذتنا الروس السوفييت وهي تستشهد بأقواله وملاحظاته واستنتاجاته حول إبداع بوشكين وليرمنتوف وغوغول وبقية الأدباء الروس الذين كتب عنهم في مقالاته وأبحاثه وكتبه الكثيرة , وكان هناك قول شائع بين الطلبة آنذاك نوصي به بعضنا البعض ( خصوصا قبل الامتحانات ) يشير الى أننا – نحن الطلبة – يمكن ان نقول ونضيف ونستشهد في أثناء الامتحانات الشفهية وتعزيزا لإجاباتنا , ان بيلينسكي أشار الى هذا الأديب او ذاك في طروحاته الفكرية الصائبة والدقيقة دون ان نخشى الوقوع بالخطأ , لأن هذا الناقد ( اي بيلينسكي ) قد كتب فعلا عن كل شيء تقريبا في تاريخ الأدب الروسي منذ بداياته في القرن الثامن عشر وأثناء مسيرته في النصف الاول من القرن التاسع عشر والى حين رحيله عام 1848... , إلا ان الأمر قد اختلف تماما بالنسبة لي عندما انتقلت من الاتحاد السوفييتي بعد إنهاء دراستي هناك الى فرنسا عام 1966 لمتابعة دراسة الأدب الروسي في قسم الدراسات العليا بجامعة باريس , فقد تراجع اسم بيلينسكي كليا , ولم يعد – كما كان – المعلم الرائد و الناقد الأدبي الأول الذي يشار اليه بالبنان في تاريخ الأدب الروسي , بل وجدت بعض الأحيان حتى انتقادات لاذعة وحادة لطروحاته , فقد اسماه – مثلا - احد الأساتذة الروس المهاجرين الكبار في احدى محاضراته عن ليرمنتوف بـ ( الطالب الفاشل ) والذي لم يفهم حتى أهمية ودور بوشكين وليرمنتوف وغوغول في مسيرة الأدب الروسي, بل والذي كان يبحث دائما عن شخص يترجم له بعض المقالات الأجنبية او في الأقل مقاطع منها الى اللغة الروسية كي يستخدمها في كتاباته النقدية لأنه لم يستطع ان يتعلم لغة أجنبية تساعده للاطلاع على ما يجري في الفكر العالمي والنقد الأدبي خارج روسيا , وقد أثارني هذا الموقف من بيلينسكي بالطبع , وأجبرني ان أتأمل و ادرس الموضوع من جديد كي استطيع ان أحدد - بشكل او بآخر - موقفي الشخصي بالذات تجاه موقع بيلينسكي في تاريخ الأدب والفكر الروسي , اذ اني لم استطع ان استوعب كل ما رأيته وسمعته في فرنسا تجاهه مقارنة بما درسته عنه في روسيا السوفييتية , بل اني رفضت الاعتراف بهذه المواقف واعتبرت ذلك ردود فعل سياسية بحتة ومتزمتة وضيقة الأفق ليس إلا تجاهه , وهكذا – ونتيجة لذلك – قررت ان ابدأ بدراسة قصة رسالة بيلينسكي الى غوغول مرة اخرى , اذ انها كانت آخر نشاطات بيلينسكي الفكرية واقعيا , وربما يمكن القول انها كانت خلاصة أفكاره او وصيته الأخيرة في تاريخ النقد الأدبي الروسي كما أشار الى ذلك ألعديد من الباحثين الروس , و لهذا فانه يمكن لهذه الرسالة ودراستها وتحليلها ان تساعدني بشكل عام بشأن توضيح الموقف الفكري تجاهه . لم أقرأ نص تلك الرسالة أثناء دراستي الجامعية الأولية في الاتحاد السوفيتي , بل اكتفيت آنذاك – مثل حال كل الطلبة الآخرين طبعا من روس وأجانب – بما سمعته من أساتذتي في محاضراتهم وما قرأته في الكتب المنهجية عن غوغول وازمته الروحية وحرقه للجزء الثاني من روايته الشهيرة – ( الأرواح الميتة ) وعن إصداره قبل ذلك لكتابه ( السيئ الصيت !! ) – ( مختارات من مراسلات مع الأصدقاء )( الترجمة الحرفية لعنوان هذا الكتاب هو – أماكن مختارة من مراسلات مع الأصدقاء ) والذي أثار بيلينسكي وغضبه وسخطه على غوغول و بالتالي ان يكتب له رسالته المشهورة تلك, والتي ندد بها بالموقف الفكري ( الرجعي ! ) لغوغول ...الخ تلك الاستنتاجات , وكيف ان بيلينسكي كان على حق وان غوغول كان على باطل وانه كان مخطئا كليا في موقفه الفكري , و ان تلك المعلومات العامة - بشكل او بآخر- كانت تكفي لأداء الامتحانات الطلابية آنذاك ( والسلام !!) , ولكني اكتشفت في جامعة باريس , عندما بدأت بقراءة نص رسالة بيلينسكي الى غوغول من جديد , ان هناك أوليات لهذه الرسالة, ابتدأت في 20 حزيران / يونيو من عام 1847 وانتهت في 10 آب / اغسطس من نفس العام , وان الرسالة التي يدور حولها الكلام هي ما كتبه بيلينسكي بتاريخ 15 تموز / يوليو من عام 1847 جوابا على رسالة غوغول بتاريخ 20 حزيران / يونيو من ذلك العام , و كان هذا يقتضي بالطبع الاطلاع على كل هذه الأوليات بلا شك , وتبين لي نتيجة تلك القراءة , ان بيلينسكي كتب تعليقا حول كتاب غوغول ( مختارات من مراسلات مع الأصدقاء ) ونشره في مجلة ( سوفريمينك) ( المعاصر ) العدد 2 عام 1847 من ص 103 الى ص 124 , وقد كان هذا التعليق حادا وشديد اللهجة جدا جدا , هاجم فيه غوغول هجوما عنيفا لإصداره كتابه المذكور , ولم يرغب غوغول ان يجيبه علانية وفي نفس المجلة او في أية مجلة روسية اخرى ( وكان غوغول يستطيع ان ينشر في أية مجلة روسية باعتباره أديبا مشهورا ومعروفا جدا آنذاك في روسيا ), لهذا كتب له رسالة بتاريخ 20 حزيران / يونيو 1847 , ذكر فيها انه قرأ بحزن وأسى تلك المقالة والتي رأى فيها ان بيلينسكي قد أساء اليه علنا وأمام الجميع وانه كان غاضبا جدا, وانتقد في رسالته تلك بيلينسكي لأنه اعتبر النقاد الذين كتبوا حوله غير محقين كليا , رغم انهم – كما يرى غوغول – انطلقوا من مفاهيم عميقة في الفن , ويختتم غوغول رسالته الى بيلينسكي بتذكيره انه يسخر منه وان هذا الموقف مؤلم له شخصيا وبشدة , وهكذا كتب بيلينسكي رسالته الجوابية الى غوغول , وهي الرسالة المشهورة في تاريخ الفكر الروسي , والتي أشاد بها السياسيون المؤيدون للنزعة الغربية في روسيا كافة طوال القرن التاسع عشر, بمن فيهم لينين في نهاية ذلك القرن ,( واستمرت هذه الإشادة في العصر السوفيتي كله , وانعكس هذا الموقف سلبيا بالطبع في أوساط المثقفين الروس الذين لم يتقبلوا ثورة أكتوبر 1917وهاجروا من روسيا ). لقد وجد السياسيون والمثقفون الروس من ذوي النزعة الغربية فيها – قبل كل شيء - برنامجا سياسيا محددا و مضادا للنظام السياسي والاجتماعي لروسيا القيصرية , وفي هذه النقطة بالذات تتبلور و تكمن أهمية هذه الوثيقة البارزة في تاريخ الأدب والفكر الروسي , والتي أدٌت الى شهرتها الواسعة , اي في تأكيدها على الأهمية السياسية والاجتماعية للفنون ودورها في هذا المجال ( بما فيها الاداب طبعا ) , وفي هذه النقطة بالذات ايضا يكمن الخلاف الجوهري والحاد جدا , بل والتناقض الكبير بين مفاهيم غوغول وبيلينسكي , اي بين غوغول الكاتب الابداعي وبيلينسكي الناقد الذي يبحث عن السياسة قبل كل شيء في ثنايا الأدب الإبداعي , وفي هذه النقطة بالذات ايضا وايضا يكمن التباين والتنافر في المعادلة الكبيرة والخالدة حول علاقة الفنان بالناقد , وهي التي يمكن تلخيصها بما يأتي : – هل الفنان نفسه يمتلك حق تفسير أهداف فنه وإبداعه ام ان الناقد هو الذي يمتلك حق التفسير هذا بغض النظر عن موقف الفنان وأفكاره ؟ و بشكل عام من هو الأعلى والاهم في عملية الإبداع الفني – الفنان الذي يبدع ام الناقد الذي يفسر من وجهة نظره أهداف هذا الإبداع ؟ , والجواب بالطبع , ان الفنان هو الأعلى والاهم في العملية الإبداعية من الناقد . ومجمل هذا الكلام (والتساؤلات و النقاشات و الاستنتاجات المختلفة حوله ) هو الذي يوضح المسألة التي أشرنا اليها في سياق هذه المقالة حول أفكار بيلينسكي وأهميتها والموقف المتباين جدا منها هنا وهناك .
بيلينسكي وغوغول او غوغول وبيلينسكي – موضوع كبير ومهم وحيوي جدا ولا زال مطروحا لحد الآن في تاريخ الأدب الروسي ومسيرته و تاريخ الأدب العالمي ومسيرته ايضا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق