ترجمة: لطفية الدليمي
المصدر : جريدة المدى
تقول ريبيكا نيو
برغرغولدشتاين عن لذة الفلسفة (( تصادف يوماً أن وقع بيدي كتاب ( قصّة الفلسفة )
لويل ديورانت وكنت آنذاك في الحادية عشرة أو الثانية عشرة و كان الفصل الخاص بـ (
أفلاطون ) هو تجربتي الأولى في التلذّذ بالنشوة الذهنية و أذكر حينها كيف شعرت أن
روحي غادرت جسدي كلياً في تجربة عجيبة عصية على الوصف ..))
نشهد في زمننا الحاضر
أثر التطورات الهائلة التي يجترحها العلم و التقنية و نشهد بذات الوقت كيف غيّرت
هذه التطورات و بطريقة هائلة فهمنا لكينونتنا الفيزيائية و العقلية إلى حدّ بات
فيه من السهل على البعض أن يعدّ الاشتغال الفلسفي فعالية غير منتجة ولاجدوى منها ،
وتشخص أمامنا المقولة التي أطلقها الفيزيائي الكبير ( ستيفن هوكنغ ) الذي جادل
بقوة و دافع عن فكرته النبوئية القائلة بالموت الوشيك للفلسفة في عالمنا المعاصر ،
و لكن الأمر يختلف تماماً مع ( ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين Rebecca Newberger
Goldstein) : الفيلسوفة و الروائية
التي درست الفلسفة في كلية برنارد و حصلت على شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة
برينستون ثم درّست الفلسفة في عدد من الجامعات منها : كولومبيا ، رتجرز ، برانديس
، و حصلت على جائزة ( ماك أرثر ) عام 1996 و كتبت عدداً من الكتب نذكر منها : (
إشكالية ثنائية العقل – الجسد) عام 1983 ( خواص الضوء : رواية عن الحب و الخيانة و
الفيزياء الكمية Properties of Light : A Novel on Love , Betrayal and Quantum
Physics ) عام 2000 ، ( عدم
الاكتمال : برهان و متناقضة كورت غودل ) عام 2005 ( خيانة سبينوزا ) عام 2006 ، (
36 دليلاً على وجود الله :( 36 Arguments on the Existence of God ) عام 2010.
أحدث كتب غولدشتاين : (
أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة Plato at t Googleplex
Why Philosophy Won"t Go Away
) الذي طرح في الأسواق في آذار 2014 و يلقي الضوء الكاشف على التقدّم الهائل الذي
أحرزته الفلسفة وإن كان غير مرئي غالبا - و بالتالي يبشّر بالقدرة المدهشة للفلسفة
على مغالبة موتها المزعوم الذي روّج له ستيفن هوكنغ .
الحوار التالي مع
ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين منقول من موقعين : الأول أجرته ( هوب ريس و نشر في مجلة
( أتلانتيك ) الامريكية في 27 شباط 2014 و تتناول فيه غولدشتاين مسائل : المناظرات
بين العلم و الفلسفة ، الارتقاء الحاصل في الفكر الفلسفي ، و أهمية فهم دور
الفلسفة في حياتنا المعاصرة ، أمّا الحوار الثاني فأدارته كاثرين ريد و نشر في
موقع ( Harvard Crimson
) في 11 شباط 2010 و تتناول فيه غولدشتاين جوانب شخصية عن حياتها أكثر مما ورد في
الحوار الأول .
الحوار
× أعلم أنك قرأت كتاب
(قصة الفلسفة) للفيلسوف ويل ديورانت بمحض صدفة غريبة و أنت لمّا تزالين طفلة بعد .
أيّة أفكار أولية تشكّلت لديك بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب؟
- نشأت وسط عائلة
يهودية ذات تقاليد دينية أرثوذكسية شديدة التزمّت و كان كلّ فرد فيها ملتزماً
بقواعد صارمة إزاء الأفكار الكبرى في الحياة و قد عجبت دوماً كيف اقتنعوا بما
كانوا يعرفونه أو بشكل أدق : بما كانوا هم يدّعون أنهم يعرفونه و ذاك هو بداية
التساؤل الأبستمولوجي الذي لازمني منذ ذلك الوقت و حتى اليوم . عندما كنت صغيرة
كان متاحاً لي دوما أن أقرأ باستفاضة في أي حقل أريد و تصادف يوماً أن وقع بيدي
كتاب ( قصّة الفلسفة ) و كنت آنذاك في الحادية عشرة أو الثانية عشرة ، و كان الفصل
الخاص بـ ( أفلاطون ) هو تجربتي الأولى في التلذّذ مع النشوة الذهنية و أذكر حينها
كيف شعرت أن روحي غادرت جسدي كلياً في تجربة عجيبة عصية على الوصف ، و على الرغم
من أن كثيراً من الأمور لم أفهمها آنذاك و لكنّ شعوراً كونياً غمرني و همس في أذني
بأن ثمة شيئا خالدا و مفارقا للتجربة اليومية العابرة ينتظم كل الظواهر المتغيّرة
في هذا العالم.
× متى كانت بدايتك
الأكاديمية الموثّقة في تعلّم الفلسفة ؟
- لم أتصوّر يوماً أنني
سأنكبّ على دراسة الفلسفة إذ لطالما أحببت العلم و الكتب العلمية عندما كنت صغيرة
ولا زلت اذكر كيف كنت أخرّب محتويات مطبخنا في محاولة إجراء التجارب الكيميائية
التي كنت أقرأ عنها تحت عنوان " اصنع بنفسك " . كانت أمامي دوما جملة من
الموضوعات التي تشدّ اهتمامي و لكن ما أعجبني في الفلسفة اكثر من سواها أنّك إذا
ما أحببتها فلست مضطرّاً إلى التخلّي عمّا سواها لأن أي حقل معرفي يستوجب وجود
فلسفة مرافقة له مثل فلسفة اللغة ، الفلسفة السياسية ، فلسفة الرياضيات ،،، و صار
واضحاً لي أن كل الموضوعات يمكن لي أن أدرسها في سياق إطار فلسفي مرافق لها.
× كيف كانت عائلتك
الأصولية المتزمتة تنظر إلى مسعاك الفلسفي المبكّر الذي تحدثّت عن جوانب منه؟
- كانت والدتي تشعر
بعدم الارتياح على الدوام من اشتغالاتي الفلسفية المبكّرة و كانت تطلب إليّ دوماً
أن أكون طالبة مجتهدة و لكن من غير هذا الانغمار الزائد في خضمّ المشكلات الفلسفية
لأنها كانت تخشى أن لا يقبل أحد بالزواج من قارئة نهمة للكتب مثلي !! و لكن الغريب
فعلاّ أنني تزوّجت في سن التاسعة عشرة ، و ما يبعث على الغرابة أكثر أنني لم أنشأ
طفلة متمرّدة بما يليق بروحي الفلسفية الثورية بل كنت أتبع كل القواعد و
الالتزامات الاجتماعية المقرّرة.
× في أيّة مرحلة مبكّرة
ترين أن بوسع الأطفال أو ينبغي لهم أن يباشروا دراسة الفلسفة؟
- بدأت تعليم الفلسفة
لبناتي الصغيرات في سن مبكرة جدا ، و تعترف بناتي اليوم أن واحدة من اكثر الأمور
إمتاعاً في تعليم الفلسفة هو إدراك الثيمات الفلسفية الكبيرة في الحياة ، و يختلف
الأطفال عن البالغين في حقيقة مدهشة و رائعة بذات الوقت : فما يستشعره الأطفال من
متعة بالغة عند استكشاف الأطر الذهنية للتفكير يمثّل عند البالغين فخّاً اصطادهم و
فرض عليهم قيوده المعيقة الصارمة او هكذا يظنون.
× يضاف إلى هذا أن حب
المناقشة و الاستقصاء عادة متأصّلة لدى الأطفال؟
- نعم فلطالما ناقشتني
بناتي الصغيرات في كل شيء تقريباً و كنت أتعامل مع آرائهن بغاية الجدّية متى ما
كانت طروحاتهن مقنعة و مقبولة و تستند إلى أدلّة جيّدة . يمنح التفكير الفلسفي
الأطفال قدرة على نقد الذات و الدفاع عن الآراء الشخصية في ذات الوقت الذي تحترم
فيه آراء الاخرين و تؤخذ في جدية كاملة و في إطار من التسامح الجميل و هو الأمر
الذي يساعد في خلق مواطنين صالحين بعيدين عن الانسياق وراء الدوغمائية القاتلة ،
كما تساعد الفلسفة الأطفال من جانب آخر على التفكير في المنظورات الأخلاقية :
فالأطفال لديهم حسّ أخلاقي ذاتي طبيعي و ليس غريباً أن نسمع طفلاً في الثالثة يصيح
" هذا ليس عدلاً " !! و تعلّمت أنّ من الممكن تنمية هذا الميل الطبيعي
للتفكير بأهمية العدالة و غيرها من الموضوعات الأخلاقية الأساسية المعروفة . يولد
الأطفال فلاسفة بشكل طبيعي و فوق هذا فهم يتمتّعون بقدرة هائلة على إبداء المرونة
في ما يفكّرون فيه من موضوعات فلسفية ، و تلك مزيّة يفتقدها البالغون على نحو يثير
التساؤل و الاستقصاء في جذوره و مسبّباته .
× أية تغيّرات ترين
أنها طرأت على المنهج الفلسفي خلال الأربعين سنة الماضية؟
- واحد من اكثر الأمور
الحاسمة التي طرأت على المنهج الفلسفي هو ظهور النساء على المسرح الفلسفي و تغيّر
بؤرة الاهتمام تبعاً لهذا الظهور النسوي ، ثم هناك ايضاً الزيادة الملحوظة في
الاهتمام و التمتّع بالفلسفة و الأدب و استخدام الأدب كمنصّة لعرض المطارحات
الفلسفية و تلك مسالة تملؤني سعادة لأنني كنت محسوبة دوماً في خانة الفلاسفة
المنغمسين بالفلسفة التحليلية المؤسسة على قواعد شديدة الرسوخ و الصرامة ، لذا
فعندما بدأت كتابة أعمالي الروائية المبكرة قال لي الكثيرون في نبرة أسى واضحة :
" أووه ما هذا ؟؟ كنّا نظن فيك شخصاً اكثر جدّية"!!
و لكن الأمور تغيّرت
اليوم بطريقة حاسمة و صار الناس يتعاطون مع الأدب بطريقة غاية في التوقير و
الجدّية و باتوا يرون فيه مجموعة من تجارب فكرية ثرية ( مفردة التجربة الذهنية Thought Experiment ترد غالباً في الأدبيات الفيزيائية و تنسّب
في العادة إلى العالم الفيزيائي أينشتين الذي رأى في الخيال وسيلة أهم من المعرفة
- المترجمة ) . إن الكثير من التجارب الفكرية المرموقة و المؤثرة باتت تأتي عبر
الروايات ، و صار للروايات - و الأدب بعامة – قدرة على الارتقاء بالتطور الأخلاقي
للناس و إعادة تكييف مشاعرهم و منظوراتهم الأخلاقية.
× يبدو هذا صحيحاً
تماماً : فقد أبانت دراسات حديثة أن قراءة الأعمال الأدبية تقود إلى تعاطف متزايد
و ارتقاء ملحوظ في النظم القيمية للأفراد ؟
- نعم بالضبط : فالأدب
يغيّر نظرتنا لما يمكن تخيّله ، ولا تفلح الروايات التجارية عادة في استثارة قدرة
الناس و رغبتهم في كسر النمطيات الجاهزة Stereotypes التي يقيّدّون أنفسهم بها على العكس ممّا يمكن للرواية الأدبية الرصينة
أن تحوزه من تأثير متعاظم ، و قد ساهمت الكثيرات من النساء الفيلسوفات في جلب هذه
الموضوعة إلى قلب النقاش المتواصل و تأتي في مقدمة هؤلاء الفلاسفة : مارثا نسباوم Martha Nussbaum التي تقود فكرة تقول أن الأدب في غاية
الأهمية من الناحية الفلسفية في وجوه عدة . ثمة حقيقة أخرى ترتبط مع علاقة الفلسفة
بالأدب : تلك هي الانزياح المتزايد باتجاه الفلسفة التطبيقية التي ترمي إلى تطبيق
النظريات الفلسفية في مقاربة مشكلات الحياة اليومية ، و الأمثلة كثيرة في هذا :
الأخلاقيات الطبية ، الاخلاقيات البيئية ، الموضوعات الجندرية ،،، و هذا اختلاف
حقيقي عمّا كانت عليه الفلسفة عندما كنت لا أزال يافعة في المدرسة إذ كانت الفلسفة
آنذاك نظرية و عصية على التطبيق اليومي إلى حد بعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق