تصفح موسوعة قصة الحضارة

تصفح موسوعة قصة الحضارة
قصة الحضارة


الاثنين، 31 مارس 2014

بين الصفر والواحد (نقطة عبور للشعر)





محمد علي شمس الدين 
وسواس هذا اليوم

لن يمر هذا اليوم من دون وسواس ما يلابسني تجاه الشعر, في يومه العالمي (تبعاً لتسمية منظمة الأونسكو التابعة للأمم المتحدة): هل هو يوم تذكاري للشعر باعتباره ذكرى قديمة معرضة للنسيان؟ أم هو يوم تذكيري بالشعر باعتباره كائناً جميلاً يمكن أن يهمله الناس في زحمة الحياة الإستهلاكية المعاصرة، ولا بد من تذكيرهم به؟
وفي جميع الحالات، ثمة شيء من استحضار الغائب، وشيء من التذكير بالموجود وكأنه مفقود، أو بالعكس، وهذه بعض من علامات طللية الشعر، في المناسبة.

ولعله يقفز إلى ذهننا اليوم، قول الشاعر الفرنسي «جان تارديو» في «صباحات مرمدة»: «كان الشعر قارةً واسعة، صار جزيرة معزولة»، فما احتفال الشعراء بيومهم الأممي هذا، سوى شكل من أشكال الاحتفال بعزلاتهم.. وهو أمر لا يضير الشعر في شيء على كل حال، بل لعله يشد به إلى اصله القديم المتكوم في قاع النفس البشرية، في سريتها واحتجابها وتلصصها على الوجود بكثير من الخوف والشك والغبطة... ومغامرة الإنسان الفرد في خلق كون آخر مغاير للكون الذي قذف فيه، من خلال الكلمات، التي هي أجنحة المخيلة، وبرقها الكاشف العجيب.
ما يمكن أن يلاحظ على تطور الشعر ابتداءً من العصور الحديثة حتى اليوم، ومنه الشعر العربي، هو بداية انزياح وسقوط مفهوم الشعر الذي هو قائم بسواه، الشعر الذي هو في خدمة كائن آخر (السلطان، الدين، الحزب، المرأة، المجتمع... إلخ) نستطيع القول إن الشعر يسير باتجاه أن يكون هو «الملك»، والوجود كله من رعاياه. القصيدة نار، والآخرون من حطبها. كما تظهر الصورة الشعرية، هنا وهناك، على شكل شواطئ شديدة التعرج والانكسارات، مفتوحة على المجهول المخيف، وهي ذات التماعات شبيهة ببروق ليلية، تكشف الغطاء على مفاتن العالم. لا يضيرها أنها أحياناً تلتجئ إلى الحواشي والهوامش والمنافي، ليس في الجغرافيا والخريطة، بل في منافي الذات البشرية ومنافي اللغة... فما بين الصفر والواحد، هناك دائماً نقطة عبور للشعر. الشعر، سر يبحث عن ذاته.
نقول من البداية، إن الشعر سر يبحث عن ذاته، فلا يظنن أحد أنه سيشفي غليله من الشعر في هذه العجالة.. فعلى كثرة ما كتب من أشعار على امتداد تاريخ الإنسان، التاريخ الفعلي والتاريخ المتخيل، وعلى كثرة ما كتب من نظريات، يبقى السؤال حول الشعر قائماً في الممارسة والافتراض معاً، في النص والنظرية. فهو بهذا المعنى إشكالية ليس لها حل متفق عليه. وهذا الغموض، سبب من أسباب جمال الشعر وديمومته، كما أنه يدفع باتجاه حقول كثيرة أوسع من حقل أدبيته، حتى لا يكاد يعتبر من الأدب الصرف، فأن نقول مثلاً: هذا الشعر أدبي وكفى، فكانما نحط من جوهره.. هذا الجوهر الفريد في اللغة، الذي يلتمع تارةً في الفلسفة، وطوراً في اللاهوت، ومرة في الموسيقى ومرة في الفيزياء والهندسة وسائر العلوم... وربما التمع في العدد والإشارات وتقنيات الكمبيوتر وسائر آلات الذكاء الصنعي الحديثة...
وبمقدار ما هو السؤال قلق، فالجواب صعب. فما علاقة الشعر بالعلم مثلاً وعلاقة كل منهما باللغة؟ وقد طرحت المشكلة بشكل شامل ومتنوع، المجلة الفرنسية المتخصصة المسماة «أوترمان» «autrement» بإصدارها عددا خاصاً بهذه العلاقة، ضمنته ابحاثا حول علاقة العلوم الفيزيائية والرياضية الحديثة مع التكعيبية في الرسم، ومع الشعر. وكان استاذ الجماليات الفرنسي «بول لابورت» قد أعد أطروحة جامعية حول هذه العلاقة بالذات، ووجه سؤالاّ إلى البرت آينشتاين حول رأيه في جدية هذه العلاقة، وهل البعد الرابع في الفن التشكيلي، المتعلق بالزمن، هو عينه التتابعية في النسبية؟
لم يوافق آينشتاين «لابورت» على افتراضاته، ولكنه أشار إلى نسبية إبداعية في الشعر الصوفي، تلتقي مع النسبية الفيزيائية والرياضية.
هل الميتافيزيك اساس الشعر والنثر والفلسفة والعلم والوجود والعدم؟

ثنائية شعر/نثر (صعوبة التحديد)

من مفارقات الشعر كإشكالية، من العصور القديمة حتى اليوم، ظاهرة تعريف الشعر او حده بما يفترض أنه ضده: النثر... باعتبار ثنائية شعر/نثر، هي ثنائية تاريخية، مثل ثنائية أنثى/ذكر، أو بحر/بر... إلخ. ولو تجاوزنا أمثلة العصور القديمة لجاز لنا من خلال الإفتراضات الحداثية والمابعد حداثية، أن نسأل: هل الشعر اعمى والنثر مبصر؟ صحيح أن جان بول سارتر اعتبر في كتابه «الكلمات» أن اهتزازات الكلمات شبيهة بالهزات الأرضية والأفلاك، وهي خطيرة وتكشف عن اهتزازات عميقة الغور في بنية الحضارة... إلا أنه حافظ عل ثنائية الشعر والنثر، معتبراً الشعر لعبة لغوية تدور في الفراغ، وليس لها التزام، فحين يكون الناثرون ملزمين بالمعنى وإيصاله، يبدو ان الشعراء لا دور لهم سوى الدوران في مدار الكلمات المغلق. وهو رأي كان منسجماً مع المفهوم الذي ساد الثقافة في الغرب يومذاك، ومع الجنوح لتغليب الشكل
forme والعنصر الآلي على اي معنى غير منظور، ديني أو أخلاقي... الخ لكن ما لبث التطور الثقافي ان تجاوز البنية الشكلانية المتراصة، إلى التفكيك، والبحث عما قبل الشكل او ما وراءه من جوهر وجود وكينونة.. من روح أو سحر او دين أو عنصر بدئي بدائي، فكان ارتداد إلى ما يشبه الدادائية الجديدة في الشعر، رافقه ما يشبه ذلك في الرسم، فحاول الرسام الأميركي «بن شايم» في لوحاته، ان يستر التقدم التكنولوجي بما يشبه البدائية.... ثم الالتفات أكثر فأكثر إلى الطقوس الدينية، وما يعمر به الشرق من روحانية قديمة، واساطير وعبادات كانت رائجة في افريقيا وأميركا اللاتينية. نسأل تجاه ثنائية نثر/شعر: أليس من موقع ثالث لهما معاً؟ ونسأل: اين؟
المحير حول ما هذا وما ذاك، هو انه أحياناً تنطبق أوصاف هذا على ذاك، وذاك على هذا، ويجد المصطلح نفسه واقفاً في مأزق التسمية... فمهما تصور البعض حدوداً وافتراضات رسموها لهذه الثنائية، سيجدون أنفسهم واصلين إلى تعبير معروف باللاتينية هو (
locus nonlucendo ) ومعناه تسمية الشيء بنقيضه، كمثال «قصيدة النثر»... أكثر المغالين في العربية لتوصيف النثر كنوع تام، من الجدد، الباحث زياد بركات، فهو يعتبر النثر على صورة سرد طويل مهذار جميل مبتذل حي حكائي نثري ناقل نافل مدع واقعي خرافي إيروتيكي وينطوي على ابتهالات وأناشيد خطابي وإعلاني سام وتبليغي وللسوقة والملوك والخاصة والعامة بدءاً من خطب الرؤساء وانتهاءً بابتهالات الوعاظ في بيوت العبادة مروراً بالاستدعاءات التي تكتب وتلصق على ابواب المحاكم. فليس على النثر ان ينتج شعريته... سيكون آنذاك الأسوأ بل الخائن لنفسه، المحكوم بعقدة نقص تجاه الشعر.
تجاه هذه النظرية للنثر، (والأرجح أنها تخلط بين النثر والكلام) نرى أن سؤالاً صغيراً موضوعاً على اساسها، يجعلها تنهار كعمود الملح، وهو: اليست هذه الصفات والموضوعات للنثر هي عينها للشعر؟ فالشعر ايضاً أمكنه تاريخياً أن يكون صعلوكاً سردياً هامشياً كاسراً وقحاً حراً مغامراً مسلياً رؤيوياً قديساً مبعثراً مرتباً مبتذلاً... إلخ. وليس له سوى أن يعرف بذاته، فما الفرق؟
هذه واحدة من إشكاليات الشعر كتسمية، فنحن لا نستطيع تسميته من خلال موضوعاته وغاياته وكلماته، ولا من خلال صفاته: الخطف (البرقية أو الإختزال) واللامعنى (أو المجانية) والوحدة (تبعاً لسوزان برنار)، إذ سنقع تبعاً لهذا، على نصوص مرسلة من النثر هي قصائد. وتنهض هنا مشروعية قصيدة النثر
poème de prose أو قصيدة بالنثر poème en prose على قدميها... لن يقف عند هذه اللحظة الحرجة في وجهها سوى الوزن. نعم الوزن وليس الإيقاع.

الشعرـ قضايا الممكن

بعيداً عن هذا المنطق الشكلي، واقتراباً من عمق المشكلة، فإننا نرى انه حين تطرح الفلسفة أسئلتها على العلوم، تنبثق الميتافيزيقيا وينبثق الدين، وينبثق الشعر، وربما انبثق السحر ايضاً والاسطورة.
هنا، على ما نرى، نقطة عبور للشعر من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين، وهي نقطة عبور خفية، إلا انها أكيدة. فربما خفيت على عدد من القائلين بديانة العلم وغلبة العقل الصنعي والآلي على خطط ومشاريع المستقبل، حتى نادوا بما يشبه موت الشعر... فمسارب العبور إلى هذا القرن، خارج إطار العلوم والتقنيات، قليلة وضيقة، حيث تنفض البشرية عن أكتافها الكثير من ثياب وغبار القرون السابقة، وتتخفف من فلسفات وتواريخ واشعار ربضت عشرين قرناً او أكثر على كاهلها. حتى لكأن ثمة ما يشبه المدافن الهائلة لما أثث الماضي من حضارات وقيم... ما يذكرنا بعنوان «مدافن زجاجية» لعباس بيضون.
الملفت حقاً هو نهوض الميتافيزيقيا في ثنايا العلوم التجريبية وما بعد التجريبية على حد سواء. من ذلك على سبيل المثال، إلغاء الثنائية القديمة الصارمة بين الموجود واللاموجود، في اتجاه نظرية الاحتمال, وقضايا الجهة، وما يسمى بقضية الممكن بين صفر وواحد. فالصفر هو العدم، والواحد هو الاكتمال، وكل شيء يتحرك في هذه المساحة الشاسعة القائمة بين الصفر والواحد. ذلك يقود إلى ما يسمى بالمنطق الضبابي الذي تم الوصول إليه على حطام المنطق الأرسطي والمنطق الصوري والمنطق الديكارتي وما سبق النظريات التفكيكية الحديثة. فالمنطق الضبابي هو منطق الاحتمالات، واللاتقريرية، والطفرة التي ليس في إمكان منطق العلوم الإختبارية ومنطق الحداثة أن يلحقها أو يفسرها . إنه «المخفي والمهمش بين طيات الظاهر» بتعبير سامي أدهم. وفي هذه العبارات والمفردات العلمية، حول المنطق الرياضي الضبابي، ما يقربها من الشعر كفاعلية إبداعية. فالشعر في حقيقته ليس أكثر من احتمالات، بل لعله لا يرغب في اكثر من ذلك: أن يكون كائن الاحتمالات من خلال اللغة. وهو سديم، كالمنطق الضبابي . وهو فضلاً عن ذلك، يلتقي معه في ما يسمى بعمليات التوهيم، وهي العمليات التي يلجأ إليها العلماء داخل الكمبيوتر. وهي علمياً، عمليات لا تستند للواقع الرقمي والعددي أو إلى التجارب المحققة، بل إلى الخيال واحتمالاته، بعيداً عن الواقع او بمعزل عنه.
من جديد نسأل: هل الشعر بدوره أمر آخر سوى هذا التوهيم باللغة؟ ولا أظن أنني هنا، في هذا التفكيك والتصور لنظريات ما بعد الحداثة العلمية، احاول ان اقحم الشعر في داخلها إقحاماً فيه تعسف أو مبالغة، بل اجد نفسي منسجماً مع فلسفة الشعر بالذات، ونقطة عبور أكيدة للشعر خارج نطاق وحصار ما يعلو من أصوات حول موت هذا الكائن التاريخي الجميل، أو نفاذ زيته، أو انكساف ضوئه الباهر، فامر كئيب جداً أن يموت الشعر والشاعر، في عصر انتصار الآلة، وأن ينتهي عصر الإنسان، في عصر تشكل اللاإنسان الصنعي، الآلي، المبرمج، والإنسان الاستهلاكي الهش السريع التلف، نقطة العبور هذه، تستند إلى جوهر المنطق الما بعد حداثي الجديد، حيث يلتحم العلم بالشعر التحاماً عجيباً.. ومدار ذلك، العجز في الإجابة عن كيفية تحول المادة التي لا تنتج سوى المادة إلى معنى.. عن خروج الحياة من الموت، عن روح التحولات... لقد اشار لذلك، الباحث بوب هولمز، في مقال له بعنوان «قداس جنائزي للروح» نشر في مجلة «
new scientist»، ونقله للعربية الدكتور عماد مصطفى (مجلة الثقافة العالمية العدد 87)، فاظهر ان «قطبة الروح» او «جوهر الإبداع الإنساني»، وفي مقدمته الشعر, تبقى جميع الآلات والبرامج الصنعية عاجزة عن تحقيقها.
يقول رسول حمزاتوف في كتابه «بلدي»:
«حسناً. لقد صنعت قفصاً صدرياً، لكنك نسيت ان تضع فيه قلباً يخفق.
لقد أوجدت عينين /لكن نسيت أن تنفخ فيهما من بريق الحياة... فالعيون التي لا حياة فيها تشبه حبات العنب».



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق