تصفح موسوعة قصة الحضارة

تصفح موسوعة قصة الحضارة
قصة الحضارة


الاثنين، 31 مارس 2014

حياة لا احتفال





إسكندر حبش
هل علينا أن نحتفي بالشعر في يومه فقط؟ يبدو السؤال صعباً، بمعنى من المعاني، على الذين "تورطوا" في هذه المسألة، بمعنى أنهم خصّوا وجودهم بهذا "الحيّز المدهش" الذي نذروا له كلّ شيء. فالشعر بالنسبة إلى كثيرين ممّن يكتبونه ليس مناسبة سنوية، ينتهي بعدها "الاحتفال" ويعودون لاحقاً إلى بيوتهم. بل هو "مناسبة" مستمرة، دائمة، لا تتوقف لحظة. بهذا المعنى، يبدو الشعر، بالنسبة إليهم، وكأنه "العيش في الشعر"، فيما لو استعرنا عبارة الشاعر الفرنسي يوجين غيوفيك، الذي لخص علاقته بالكلمة الشعرية، بهذه الطريقة. فالشاعر الذي كتب الأشياء، كان يعتبر أن الشعر هو طريقة حياة، لا نستطيع اختصارها بلحظة معينة.

ما يدفعنا إلى هذا السؤال مجدداً، "اليوم العالمي للشعر"، وهو اليوم الذي أعلنته منظمة اليونيسكو منذ أعوام عديدة. ربما كان في إعلان اليونيسكو يومها، رغبة "في تقليل هذه الحصة المظلمة من الحياة" التي نعيشها، أي في إعادة بعض ألق مفقود لفن أساسي، يذهب حالياً في نوع من الغياب، أقصد أنه يبدو عند عديدين وكأنه يفقد حضوره الكبير الذي كان يعرفه في الحِقَب الماضية. لكن هل هذا صحيح؟
ثمة بلدان أطلقت منذ سنوات تظاهرة "ربيع الشعراء"، حيث تقدم فيها أنشطة متنوعة تتراوح بين الأمسيات المختلفة والندوات وإصدارات الكتب، ولقاءات مع الجمهور في الساحات العامة والمنازل وأنفاق المترو وحتى في المستشفيات والمصحات إلى غيرها من الأماكن، والهدف جعل الناس أكثر قرباً من الشعر والشعراء. بلدان أخرى، تنتظر اليوم العالمي للشعر الذي أطلقته اليونيسكو للبدء باحتفالاتها التي لا تشذ بجوهرها عن "ربيع الشعراء"، من حيث إدخال الشعر أكثر إلى حياة الناس اليومية. في جميع هذه التظاهرات نجد مفهوماً واحداً يتمحور عند اللجان المنظمة: العلاقة بين القارئ والشعر.
قد يهلل البعض لهذه النشاطات، لكن قبل أن تأخذنا النشوة إلى أقصى مداها لنسأل هل يحق لنا جعل الشعر سلعة مثله مثل غيره، وتخصيص يوم عالمي له للاحتفال به عبر الخطب الرنانة؟ هل نستطيع أن نحوّل هذه "المادة" الوجودية إلى شيء عادي أشبه بالخضروات والمأكولات لنقيم لها الأعياد الوطنية والعالمية؟ أو حتى لنحوله إلى "مادة علاجية".
بالتأكيد يقف الشعر على مسافة بيّنة من ذلك كله. من قال لنا إنه بحاجة إلى هذا "الدعم" البشري كي يقف على قدميه، أي كي يستمر في الحياة. في الأصل، من أين هذه البدعة في طرح المشكلة على هذا النحو: لا شعر من دون جمهور؟ ومن قال أيضاً إن الجمهور غائب إلى هذا الحد الذي نفعل "المستحيل" للبحث عنه؟ أضف إلى ذلك، أن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح: هل فعلا لا تستقيم القصيدة إن لم يكن لها هدف مسبق؟ أليس هدف الشعر يكمن في الشعر نفسه، أي أن "المتعة" تكمن في متعة القصيدة، وليس في البحث عن أي مسوغات لها؟
متعة القصيدة
في إحدى مقالاته التي تعود إلى بداية الخمسينيات، وجد الناقد الفرنسي جورج مونان (وكان يُعتبر يومها واحداً من أهم نقاد الشعر في فرنسا) أن ثمة علاقة وثيقة بين الشعر والمتعة. يومها، حاول مونان، الحديث عن القصيدة بوصفها عملية غرامية، أي حاول إقامة بعض علاقات الشبه بين القصيدة والمتعة الجنسية. ومن هنا، جاء اشتقاقه عبارة "متعة القصيدة"، وهي تركيبة لغوية ذاعت لفترات طويلة في النقد الذي جاء بعده، حيث بدأنا نجد "متعة القراءة" و"متعة الكتابة" والعديد من المتع الأخرى، التي تنسج على المنوال نفسه.
لو عدنا اليوم، لاستعمال هذه العبارة مجدداً، شرط أن ننزع عنها أي سياق آخر، بمعنى انه لو حاولنا أن نطرح سؤالاً صغيراً مفاده: هل أن القصيدة لا تزال تقدم لنا "متعة" ما، أو بالأحرى ما هي "متعة القصيدة" اليوم؟
قد نحار في إيجاد جواب مناسب لسؤال يبحث هو نفسه عن معناه. قد تكون المتعة موجودة في قراءة القصيدة، بيد أن ثمة الكثير من القصائد التي تنشر اليوم لا تثير في النفس سوى الضجر. فأغلب الذين يلتجئون إلى الشكلانية في الكتابة، لا يبدو كأنهم يمارسون غراماً طبيعياً، بل غراماً مثلياً إذا جاز التعبير. كأن الكتابة نفسها لم تعد متعة أساسية، وإنما واجب يفرض علينا تسويد الصفحات. أي أن القراءة تحمل في طياتها متعة عليها أن تلتجئ إلى ما يكتبه الآخرون.. إن قسماً كبيراً من الذين يكتبون القصائد، لا يجدون، هم أنفسهم، متعة في الكتابة، وكأن الشعر عندهم، لم يعد شيئاً من هذا العالم، بل هو أمر غريب عنه، كأنه ينتمي، بصلة ما، إلى كوكب آخر، لم نعد نستطيع تحديد كنهه.
حين لا يعود الشعر يجد الوسيلة ليتحدث عن هذا العالم، عن "نحن" و"أنا" في هذا العالم، وعمّا يجعل لهذين الضميرين معنى ما، وعمّا يجعل هذا العالم عالمنا نحن، فليس عند ذاك، للشعر، أي حظ أبداً، في قول شيء ما. ليس له أي حظ في أن يقول شيئاً.
إذ، ولكي يتحدث عن هذا العالم، عليه أن يكون موجوداً داخله. عملية الوجود هذه داخل العالم بالطبع تفترض بالضرورة علاقة حسية، فالشعر لا يبدأ خارجه، لا يبدأ إلا من تجارب الحواس التي تتطلب ربما ألماً فرحاً، أي متعة. الكثير من القصائد التي نقرأها اليوم، يعطي شعراؤها الانطباع، بأنهم منطوون في قلب أراض معزولة عن الأدب، بشكل اصطناعي، كما لو أنهم يمكثون في قلب مخزن قاحل، حيث لا يجدون سوى الفخر بأنهم لا يزالون على قيد الحياة، بأنهم آخر بيادق اللغة الحرة الطاهرة. بيد أنه ومنذ زمن بعيد أصبحت عملية تخريب "العقل" باسم الفن، الوسيلة الوحيدة، لفرض "خزعبلات" عديدة.
الكتابة، تفترض في الأساس، وقبل أي شيء آخر، أن نعيش في هذا العالم، لا أن نعيش حوله. علينا أن نعي ما يدور حولنا. إذا استطعنا أن نقبض على هذه اللحظة، فربما، عندها، سنعود لنقبض على "متعة القصيدة"، بالأحرى، على "متعة" الأدب بأسره.
بهذا المعنى، ليس على الشعر أن يكون موسمياً، لأنه وقبل أي شيء آخر نمط حياة، تماماً مثل العبارة التي ذكرتها للشاعر الفرنسي. إذ أن الشعر يعاش قبل أي شيء آخر، أي قبل تحنيطه وقبل تحويله إلى يوم عالمي، أشبه بأيام الحداد والتذكر واسترجاع أوهام، علينا أن لا نخلقها أصلا، على الرغم مما نقوله ونستعيده، في أحاديثنا اليومية، عن أزمة الشعر إلا أن شيئاً واحداً لا بدّ أن نلحظه من دون مواربة: لم يتوقف الشعر يوماً عن أن يكتب نفسه. لم يتوقف الشعراء أيضاً عن تأكيد حضورهم في "المدن" أيّ لم يتوقفوا عن الكتابة. لذلك قد تبدو أقاويلنا بمثابة اختراع أوهام وأزمات، من حيث أن الواقع، واقع الشعر ـ لا يبدو على هذه الدرجة الكبيرة من اليأس مثلما يتمّ تصويره.
ربما كان من الجميل أن نحتفل بالشعر، لكن إن اعتبرنا فقط أن هذا اليوم الاحتفالي ليس يوماً تأبينياً، عندما ينتهي تنتهي معه علاقتنا بقراءة الشعر أو كتابته أو سماعه... على هذا "الاحتفال" أن يكون مستمراً طيلة حياتنا، لأن لا حياة خارج هذا "الكائن الهلامي"، "الضعيف"، أقصد أن لا تتحول المناسبة إلى حفل للاعتداء عليه لأن القصيدة لا تستطيع بالتأكيد أن تدافع عن نفسها وسط هذه الهجمة البربرية التي تحملها الجماهير معها في غزواتها الكبرى. ففي أحيان كثيرة، يكون الشعر أجمل، بدون جمهور، بدون بربرية الكائن البشري الذي يريد أن يجد حلولا لكل مشكلاته عبر هذا الكائن الجميل. لندع الاحتفالات جانباً، لأن الأهم أن "نعيش الشعر" مهما كانت عليه الفضاءات التي نحياها.
هذا الكلام يقودني فعلا إلى مقارنة: "القصيدة تضعنا في العالم" (مثلما يقول أحد الشعراء الفرنسيين). جملة، قد تجد صداها مع ما كتبه غيوفيك (الذي ذكرت سابقاً) في إحدى قصائده التي تعود إلى العام 1973 والتي نجد فيها "القصيدة/ في كلّ مرة/ دائماً/ هي المغامرة الأولى/ الأخيرة/ الوحيدة/ حيث يتقرر كلّ شيء/ حيث يُعطى كلّ شيء". جملة قد تقف على تضاد، مع ما قاله شاعر فرنسي آخر هو رينيه شار الذي وجد أن على الشاعر "أن يترك آثاراً على مروره لا أن يترك شاهداً" لأن "الآثار وحدها ما يجعلنا نحلم". تضاد، بمعنى أن قول غيوفيك لا بدّ من أن يقودنا إلى الاستنتاج التالي: "القصيدة هي الأثر والشاهد" مع مرور الزمن. ثمة أمثلة كثيرة على ذلك، في كل شعر العالم، لكن لو حاولنا أن نبقى في سياق الشعر الفرنسي، لوجدنا أن قصيدة، "المركب السكران" لرامبو على سبيل المثال هي شاهد وأثر وربما أكثر من ذلك. عدا هذا، حين يصدر شاعر أعماله الكاملة وهو بعد على قيد الحياة، أتكون بمثابة شاهد أم أثر؟
ربما كان ما يشدني في ذلك كلّه، تلك الفكرة التي تؤرقنا حين نرغب في كتابة شيء ما، أي "رعب الصفحة البيضاء"، كما رعب "العمل" الذي علينا أن نبنيه. من هنا، هل على الكتابة أن تبقى تلك الرحلة من التنفيس عن شيء ما، أم ثمة حيّز آخر علينا الانتباه له؟ صحيح أننا حين نسكن الكلمات ونسكن الصفحة بالتالي، نجد أن العمل "يُهندس" نفسه، مثلما "تتهندس" الشجرة وحدها، لكن في ذلك كله، علينا فعلا أن لا نتخلى عن شيء جوهري في ذلك كله: أن تبقى القصيدة هي "المغامرة الوحيدة التي تعيد إلينا كل يوم ولادتنا من جديد". بأي معنى تأتي هذه الولادة؟ سؤال يطرح نفسه عليّ في قلب هذا "الكاوس" الذي يحتلنا، فغالبا ما نردد (مع هولدرلن) "ما نفع الشعر في زمن الشدة؟". قد لا يكون الشعر صالحاً إلا في زمن الشدّة، أي لن يكون هناك أي مكان للحدس الشعري، وبالتالي لن يكون له أي حق في الوجود، إلا إذا عاد وأوجد ضمن فيض هذه الاستيهامات وتكاثر الصدمات وظيفته الأصلية، التي كانت معرفة بداهة العالم الطبيعي، وحل رموز التعليمات ودروس التوازن.
في هذا اللاواقع الذي يكبر، على الشعر أن يحتفظ بقدميه على الأرض، أن يعطي المثال على منطق جديد. ويعني ذلك انه حين يستعمل شاعر كلمة ما، عليه أن يفكر في ما تفرضه هذه الكلمة في الوجود، وليس فقط في الورقة، كما في دوافع الحياة النفسية والاجتماعية، وليس فقط ضمن أفقه الشخصي الذي يحفظه من هموم المخاطر التي تتراكم. لن يستمر الشعر في الحياة إلا إذا عرف كيف يعود ويوجد قلقه وطموحه وكلماته وصوت المآسي الكبيرة أيضا وأبداً.
مهما اختلفت التسميات والتوصيفات، يبقى الشعر بالنسبة إلى كثيرين من "صُنّاعه" و"أبطاله" بمثابة مجال حيوي يتنفسون في داخله ومن داخله. ربما لأن الشعر هو حصن أخير في تكويننا، نجدنا دائماً نلجأ إليه. ليس معنى هذا أنه بديل من أشياء أخرى، بل أعتقد أنه لا يزال كل شيء، ولا يزال هو القول الأول الذي يخبرنا عن أحوالنا. بهذا المعنى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق